العلاقة بين الإسلام والغرب اتسمت في معظم تاريخها بالتصادم وذلك منذ فجر الإسلام مروراً بالحروب الصليبية إنتهاء بما اصطلح عليه «صدام الحضارات» والذى قصد به في الأصل - صدام - بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. هذا الصدام الذى أراد له مروجوه من الغرب أن يكون أصلاً لعلاقة الغرب مع الحضارات الأخرى سيما الحضارة الإسلامية.. وبذات الفهم ذهب أغلب المسلمين إلى تصديق هذا الواقع في العلاقة بين الإسلام والغرب ليستغل المتطرفون من المسلمين والغرب هذا الواقع فيؤججوا نار التناحر بين
االحضارتين معززين ماذهبوا إليه من خلال بعض الأحداث التي وقع فيها صدام بين الحضارتين الإسلامية والغربية الى درجة النزاع المسلح وهم يربطون كل ذلك بواقع لايوجد فيه على الأفق أمل يبشر بتصالح الحضارتين.
غير أنه وبعيداً عن هذه النظرة السوداوية التشاؤمية عن واقع ومستقبل علاقة الإسلام مع الغرب فإن ثمة مايدفع إلى التفاؤل وتغليب جانب الحوار بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية استناداً على ماض تم فيه التواصل بين الحضارتين فاستفاد الغرب من هذا التواصل فشيد إمبراطوريته الحضارية مستفيداً مما جادت به الحضارة الإسلامية في ذاك الوقت.
هذا البحث يتناول إمكانية إعادة عجلة التاريخ وإتمام مسيرة التواصل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية والتى سادت في العصور الوسطى وذلك لأن الواقع العالمي الملتهب يحتم على الجميع نزع فتيل الإشتعال وتجنيب البشرية من كارثة لا يحمد عقباها، فالواقع العالمى المتفجر وأدوات العولمة يمكن إستخدامها لتقريب وجهات النظر بين الحضارتين.
إن حوار الإسلام والغرب كما يعاني من مشكلات فهو بحاجة إلى آليات ومتطلبات تجعل منه أمراً ممكناً وضمن متطلبات هذا الحوار تشجيع الخطاب المعتدل لتمديد جسور الثقة وقيام الشراكة الحضارية القائمة على تقديم التنازلات بين الحضارتين.
إن متطلبات الحوار على كثرتها ودواعي الحوار وضرورته تبدو عديمة الجدوى مالم تكن هنالك إرادة صادقة بين الحضارتين لإجراء مثل هذا النوع من الحوار وتلك هي رسالة النخبة على مستوى الحضارتين لتحريك المؤسسات السياسية والإقتصادية والثقافية والعلمية والفنية لدفع الحوار بين الحضارتين حتى تجنب البشرية ويلات الصدام.
نظرة الإسلام إلى الحضارات:
إن الرؤية الإسلامية في خلاصة الأمر مع «التعددية الحضارية» كسنة من سنن الله في تعدد الأمم التى تتمايز بتعدد الحضارات ولأن فلسفة الإسلام في العلاقة بالآخر قائمة على إحترام التعددية الحضارية. أن الإسلام أوجد بعض القوانين واللوائح التى تنظم هذه العلاقة حتى لا يساء فهمها من ناحية ومن أخرى حتى يتم تقنين التعامل بين الحضارات ولأن هذه هي فلسفة الإسلام في العلاقة بالآخر كان إستخدام القرآن الكريم لمصطلح «الدفع» عندما تدعو الحاجة بسبب إختلال التوازن في العلاقات مع الإغيار وحلول «الخلل» محل «التوازن» وسيادة «الظلم» بدلاً عن «العدل» وقيام الجور بدلاً عن «الوسطية» هنا يكون «الدفع» أى الحركة الإجتماعية التى تبتغى إعادة العلاقات الى مستوى ومقام «التوازن» ثانية، مع الإحتفاظ بالتعددية والتمايز للفرقاء المختلفين هنا يكون «الدفع» ولايكون الصراع لأن الصراع يقتضي نفي الآخر بصرعه وانهاء وجوده والإنفراد والواحدية «ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذى ببينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» «هود 118»، «فإذا كانت الحضارة الغربية قد تبنت واعتمدت فلسفة «الصراع» فرأته قانون العلاقة في الأحياء،« صراع البقاء في الدارونية وفي الإجتماع الصراع الطبقى في الماركسية»، وفي العلاقات مع الحضارات الأخرى «المسخ والنسخ والتشويه» لمواريث الأمم التى أصابها الإستعمار والهيمنة الغربية إذا كان هو طابع العلاقة كما فرضتها الحضارة الغربية علينا فهو كالقتال الذى فرض علينا وهو كره لنا.. وعسى أن تكون الثمرة ثمرة هذا الصراع الذى فرض علينا، شحذ الهمة في معركة التجديد للفكر الإسلامي إخراجاً له من أزمته المعاصرة وتجديداً لواقع الأمة به لا لننفى «الآخر الحضاري» وانما لنقسره غداً، كما قسره أسلافنا بالأمس على التخلي عن طموح الهيمنة الحضارية وعلى القبول بتعدد الحضارات ليصبح الكوكب الذي نعيش عليه «منتدى الحضارات» تتفاعل وتتبادل العمل النافع وتحتفظ كل منها بما لها من خصوصيات» (1).
موقف المسلمين من الغرب:
إنقسم المسلمون حيال الغرب إلى ثلاثة أقسام منهم من يرى أن السلامة تكمن في إتباع الغرب باعتباره الرائد في الحضارة مما يستوجب اللحاق والتشبث به، وقسم يرى وجوب الإبتعاد عن كل ماله علاقة بالغرب ، وقسم ثالث يرى أن الغرب واقع وفيه ما يفيد وآخر ما يضر فعلينا أن نأخذ ما يفيدنا ونترك ما يتنافى وديننا وهو قسم الوسطية وحيال ذلك تكونت ثلاثة تيارات تمثلت في تيار علماني وآخر سلفى وثالث تجديدي وسطى «إنقسمت الإتجاهات الفكرية إلى ثلاثة فرق، فرقة اتجهت بكلياتها إلى المدنية الغربية وحضارة الغرب ومناهج حياته والإنحياز له والأخذ منه دون نظر إلى الإسلام وترى أن ذلك هو الطريق إلى الإصلاح المنشود ومن أمثال هذا الإتجاه «قاسم أمين وطه حسين». وفرقة أدارت ظهرها للغرب وعكفت على الإتجاه السلفي التقليدى متمسكة بوجوب العودة إلى القديم، جل هذا الفريق من علماء الدين وأما الفرقة الثالثة فهي التى حملت الإتجاه التجديدي في إطار الإسلام دون الخروج على أصوله وأحكامه مع القبول بمبدأ الحوار بين الفكرين الإسلامي والغربي والإفادة من علوم الغرب وثقافته وأنظمته السياسية الديمقراطية وكل ما يقوم به نفع الأمة ولا يعارض أصول الدين». (2)
موقف الغرب من الحضارات الأخرى:
الإنتقاد الذى يمكن أن يوجه الى الخطاب الغربي هو الإستعلاء المتعمد الذي يمارسه الغرب والنظرة الدونية لما سواه من حضارات وأمم وها هو نيكسون «رئيس أسبق للولايات المتحدة الأمريكية» يقر بذلك «إن أمريكا بقيمها وسياساتها تمثل العلم والعدل والحضارة أكثر من أى دولة أو شعب آخر لذلك فإن الزعامة الأمريكية للعالم سوف تبقى عنصراً لاغنى عنه عبر العقود القادمة» (3) وهذا ما يؤكده روجيه جارودي «ان الغرب اعتقد أنه مباح له تحديد مكـــانة الآخرين والحكــــــم عليهم لصالح تاريخه وغاياته وقيمه» (4).
تأتى بعض الأفكار الحديثة لتعزز هذا الإستعلاء ككتاب فرانسيس فوكاياما الذى كتب عن الحضارة الأمريكية باعتبارها تمثل نهاية التاريخ وخاتم البشرية ومهما بلغت البشرية من رقي فإنها تعجز عن الوصول إلى ما وصلت إليه الحضارة الأمريكية.
هذه هي النظرة التى ينظر الغرب بها غيره من الأمم كما أن عقيدة الغرب في فلسفة تصادم الحضارات حيث أن التصادم هو السبيل الى التطور لما يخلفه من تسابق وتنافس هي التى تؤجج نار هذا التصادم مستفيدة من بعض الفلسفات الغربية التى تنظر الى هذا الصراع أمراً حتمياً لا بد منه «وقد تغذت بعض هذه الأفكار والسلوكيات على بعض الفلسفات الأوروبية التى كان لها أثر كبير على تكوين العقل الغربي والتى تذهب الى أن التناقض والصراع هو أساس التطور والتقدم كما في فلسفة «النشوء والارتقاء والبقاء للأقوى» عند «دارون» وفلسفة «القوة» عند «نيتشه» وفلسفة التناقض عند «هيجل» وفلسفة الصراع الطبقى عند «ماركس». (5)
التواصل بين الحضارتين عبر التاريخ:
ظل التواصل الحضاري من أبرز سمات الحضارة الإسلامية والغربية عبر التاريخ فإن اعترت هذا التواصل بعض الصدامات والمناوشات بين الحضارتين الا أن الواقع يثبت إستمرار هذا التواصل بصورة أو بأخرى .
ساهم الإسلام فى نهضة وتطور الفكر العالمى عبر مختلف العصور ( لقد كان العلماء المسيحيون فى اوربا يعملون جاهدين منذ عام 1130م على ترجمة الفلسفة العربية الى اللاتينية ) (6) 0 وقد التقى العالم المسيحى فى اوربا بالعالم الاسلامى فى نقطتين : ايطاليا الجنوبية واسبانيا وكانت توجد فى اسبانيا حركة ترجمة نشيطة ، فقد كان يوجد فى مدينة طليطلة عندما فتحها المسيحيون مكتبة عربية حافلة فى احد المساجد وكانت المكتبة ذات شهرة عظيمة (7) 0 و انتقال الفلسفية الإسلامية الى اللاتينية بصفة خاصة على يد ريموند (Raymund ) الذى كان رئيس اساقفة طليطلة من عام 1130م حتى عام 1150م وبعد ذلك رئيسا لاساقفة اسبانيا ، فقد اسس مجمعا للمترجمين عهد رئاسته الى ( دومينيك جونديسالفى) ( Dominic Gondisalvi ) واسند اليه مهمة اعداد ترجمات لاتينية لاهم الكتب العربية فى الفلسفة والعلوم وكانت هذه الترجمات التى أوصلت الى ايدى الغرب اساس الفلسفة المدرسية فى اوربا (
0
حمل الأباطرة الغرب لواء التواصل مع الحضارة الإسلامية وفى عام 1220م اصبح فريدريك الثانى امبراطورا وكان على اتصال وثيق بالمسلمين واعجاب كبير بهم فاتخذ اللباس الشرقى وكثيرا من العادات والتقاليد العربية ، ولكن الاهم من هذا كان اعجابه الشديد بالفلاسفة المسلمين الذين كان بامكانه قراءة كتبهم الاصلية باللغة العربية التى كان يجيدها وكانت علوم المسلمين تدرس بشغف فى قصر فريدريك واهدى الامبراطور وابنه مانفرد الى جامعات بولونيا وباريس كتبا مترجمة عن العربية 0 ومما يجدر بالذكر فى هذا الصدد هو ان القديس توماس الاكوينى ( (Tomas of Aquin ) قد تلقى علومه قبل دخوله سلك الرهبنة فى هذه الجامعة ، ولعل هذا السبب الذى حدا به الى الاهتمام بتعاليم الفلاسفة والعرب الى الحد الذى حمله على تقديرها تقديرا رقيقا جدا) (9) 0 ( وقد كان لكل من ابن سيناء وابن رشد بصفة خاصة حجية عظيمة فى العصور الوسطى فى اوربا 0 واصبح هناك تيار يعرف بالسينائية Avicennism) ) وتيار آخر يعرف بالرشدية) Averroism) ) (10).
تأثرت الفلسفة بهذا التواصل مما له الأثر في التأثير والتأثر بين الحضارتين (ونجد ايضا تاثير ابن سيناء حيا وقويا فى تعريف البرت للنفس ونظريته فى النبوة وقد اتخذ دانس سكوت (Duns Scotus ) من فلسفة ابن سيناء الى حد ما اساسا بنى عليه اقواله فى ما وراء الطبيعة وقد نبه بعض الباحثين الى وجود سوابق لدى ابن سيناء للكوجيتو Cogito ) الديكارتى ) (11) 0 ويثبت كارادى فو Carra de Vaux )) وجود سينائية لاتينية فى اوربا فى القرون الوسطى تركز الناحية البارزة منها على العنصر الإسلامي اكثر مما تتركز على العنصر الاوغسطينى (Augvstinism ) او اى لون آخر من المفكر المسيحى فى القرون الوسطى) (12) 0
لقد بلغت الحضارة الإسلامية لدى الغرب منزلة الإعجاب من قبل كبار العلماء في الغرب، وقد كان روجز بيكون (Roger Bacon ) من المعجبين بابن سيناء وكان لا يخفى هذا الاعجاب) (13) 0 فقد قدر لهذا الاتجاه الاتى من ابن سيناء ان ينتشر ويزدهر الى اقصى حد فى فكر روجر بيكون الذى تاثر بابن سيناء والفارابى الى درجة ان نظريته عن قداسة البابا تتفق تمام الاتفاق مع النظريات التى قال بها ابن سيناء عن الخلافة (14) 0 وكان لآراء الفارابى أثر لدى { البرت الكبير } ومن نواحى مختلفة فى القرون الوسطى فى اوربا 0 وقد اعطى الفارابى فى هذا الكتاب فكرة عامة واضحة عن موضوع كل علم من العلوم المشهورة فى زمانه وبين فائدته النظرية والعلمية ، وقد اقتبس العالم الاسبانى جنديساليوس (Gundissalinus) وفى القرن الثانى عشر معظم هذا الكتاب وضمنه كتابه المعروف بتقسيم الفلسفة 0 كما استفاد روجر بيكون من كتاب الفارابى كثيرا وافاد منه ايضا كثيرا جدا وخاصة فيما يتعلق بالكلام عن الموسيقى 0
( لقد أقر علماء الغرب بأثر الحضارة الإسلامية على الغرب ( اما عن ابن رشد فانه كان يمثل منطلقا لتطور جديد فى العالم الغربى) (15) 0 لقد عكف الغرب على ترجمة التراث الإسلامي بعد نقله الى أوروبا (وبحلول منتصف القرن الثالث عشر كانت جميع مؤلفات ابن رشد الفلسفية تقريبا قد ترجمت الى اللاتينية) (16) 0 مدافعا قويا عن الحقيقة ، وكان يقتبس منه كثيرا معتبرا اياه المعلم الاكثر صوابا (17) 0 وقد تابع القديس توماس ابن رشد فى شرحه للعلاقة بين الوحى والمعرفة والفلسفة ، وقد بين اسين بلاثيوس (Asin Palacios) فى بحث له على اساس مقارنة النصوص التى عند أبن رشد وتوماس ان الاتفاق بينهما لم يقتصر على وجهة النظر الاجمالية والافكار والامثلة بل كان فى الالفاظ احيانا وبين بلاتيوس ان ذلك ليس اتفاقا عارضا ولا مبنيا على رجوع كل منهما الى اصل مشترك وانما يرجع الى ان القديس توماس عرف آراء ابن رشد وانتفع بها (18) 0 وقد استمر اثر الرشدية حتى القرن السابع عشر وقد بشر هذا الاثر بالمذهب العقلى الذى ساد فى عصر النهضة الاوربية (19) 0 يتضح مما سبق الأثر الذى تركه ابن رشد لدى الغرب الذى اختار التواصل الحضاري والحوار.
لقد كان لتأثير منهج الغزالي أثره على علماء أوروبا (اما حجة الاسلام الغزالى فقد كان له تاثير بصورة مباشرة واحيانا بصورة غير مباشرة على عالم الفكر الاوربى وحتى على عالم الفكــــر الحديث 0 وقــــد امتد تاثير الغزالى عن طريق رايموند مارتين Riamund Martin ) () الى توماس الاكوينى اولا وفيما بعد الى باسكال) (20) 0
لقد أفرد بعض الباحثين من الغرب دراسة بينوا فيها أثر هذا التواصل الحضاري (ونود فى هذا الصدد ان نشير ايضا الى ما ذكره بهذا الخصوص عالم اسبانى معاصر ذكر فى ابحاثه على علاقة الفلسفة الاسلامية بالفلسفة الاوروبية فى القرون الوسطى وهو سلفادور جومث نورجالس S. (Gomez Norgales ) حيث يقول انا مقتنع كل الاقتناع بان هنالك تاثيرا مباشرا للفلسفة الاسلامية فى اوروبا فى القرون الوسطى 0 بل اقول اكثر من ذلك انه لولا هذا التاثير الذى كان للفلسفة الاسلامية على المسيحية لم تقدر المسيحية على اجتياز تلك الخطوة العملاقة التى نقدرها عند عباقرة الفلسفة المدرسية امثال القديس توماس او على الاقل لم تكن لتخطو تلك الخطوة العملاقة بنفس السرعة التى تظللنا 0 ويقول نوجالس ايضا ان الاستنتاج الذى توصل اليه من دراساته المقارنة بين الفلسفة الاسلامية والفلسفة المسيحية المسيحية فى القرون الوسطى هو وجود تيارات فى التفكير الاوروبى الوسيط تلتقى مع الفلسفة العربية المعاصرة فى نقط مجسدة غاية التجسيد وهنالك قضايا محررة ونقط مذهبية محددة بالذات كل التحديد فى التفكير المسيحى فى القرون الوسطى اذا تتبعنا فى خط سيرها نجد انها تصل بنا الى المؤلفين العرب 0وينتهى نوجالس الى القول الذى يصوغه بصيغة التاكيد القاطع ان الفلسفة الاسلامية قد اثرت تاثيرا حاسما فى تفكير الغرب فى القرون الوسطى (21) 0 ونظرا لان دراسات نوجالس مقتصرة على القرون الوسطى فانه لم يعترض بطبيعة الحال الى امتداد التاثير الاسلامى الى العصر الحديث 0 الفلسفة الاسلامية كان لها تأثيرها العظيم فى الفلسفة الاوروبية فى القرون الوسطى واذا كانت هذه الفلسفة قد اثرت بدورها فى الفلسفة الاوربية الحديثة فاننا نستطيع ان نقول بوجود تاثير غير مباشر للفلسفة الاسلامية على الفلسفة الحديثة 0 ولكن هذا لا يعنى عدم وجود تاثير مباشر ايضا 0 ( وقد اعتمد الغزالى الشك المنهجى سبيلا للوصول الى اليقين الفلسفى 0 ورسم الغزالى خطوات هذا المنهج بالتفصيل بصفة اساسية فى كتابه [ المنقذ من الضلال ] فرفض التقليد والتبعية الفكرية رفضا قاطعا واكد على ضرورة الاستقلال العقلى فى البحث عن الحقيقة 0 وقام بنقد المعارف الانسانية والشك فيها ابتدءا من المعارف الحسية الى المعارف العقلية 0 وناقش مسألة اليقين وقضية العقيدة ومشكلة التفرقة بين المعارف التى يحصل عليها المرء فى اليقظة ومثليتها فى المنام 0 واخيرا مشكلة الشك الميتافيزيقى المتمثلة فى تصور شيطان مخادع او كائن مضلل حتى توصل فى النهاية الى اليقين الفلسفى الذى لا يتزعزع والذى عبر عنه بعودة الثقة فى الضروريات العقلية) 0 وتوصل بطريقة عقلية لا صوفية كما يزعم البعض الى معرفة الذات ومعرفة الله 0 (22) وهو ذات المنهج الذى توصل إليه ديكارت.
(وقد كان للشك المنهجى الذى وضع الغزالى جميع خطواته اثره البالغ فيما عرفه الفكر الفلسفى بعد ذلك لدى ديكارت الذى يعده المؤرخون ابا للفلسفة الحديثة كلها 0 فالخطوات التى سار عليها الغزالى فى شكه المنهجى هى نفس الخطوات التى عليها ديكارت بعده باكثر من خمسة قرون واعتبر المنهج الديكارتى فتحا جديدا فى عالم الفلسفة) (23) 0
هذا التواصل الحضاري الممتد لعصور موغلة في التاريخ بامكانه أن يصبح أحد مقومات هذا الحوار الحضاري لأنه يعبر عن حوار فلولا وجود هذا الحوار لما تم التواصل.
الواقع العالمي ودواعي الحوار:
قد تكون هنالك رؤية إستراتيجية لمثل هذا النوع من الحوار حيث يعكس مثل هذا النوع من الحوار طبيعة الإسلام السمحة وتقليده القائم على «لا إكراه في الدين» «البقرة 256» و«لكم دينكم ولي دين» «الكافرون 6»، فمجرد أن يفهم الغرب أن الإسلام لا يكره أحد على إعتناقه وأن فيه قيم ومعاني تفيد البشرية هذا الفهم في حد ذاته رسالة دعوية مطلوبة استراتيجياً. ومن هنا ينتفي الفهم المغلوط للإسلام ووصمه بالإرهاب تفسيراً لبعض الظواهر المحسوبة على الإسلام ولها مبرراتها.
كما تنبع أهمية الحوار مع الغرب من منطلقات واقعية حيث لا تخفى سيادة الغرب على أحد. فهم امتلكوا الأرض والبحار والفضاء وما من بيت مسلم إلا كان للغرب وجود فيه بطريقة أو بأخرى ومسألة تفاعل المسلم مع هذا الواقع إنما تجسده طبيعة هذا الدين الذى يدعو للتفاعل مع الكون ومظاهره المختلفة ولعل الغرب أكبر هذه المظاهر، والواقعية تقتضى التعامل معه بحكمة الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن.
تصبح مسألة تبليغ الرسالة الخاتمة هي الأصل لهذا الحوار إذ يستطيع المسلمون عبر الحوار مع الغرب أن يبلغوا رسالة الإسلام ويقدموا البديل للحضارة المادية المتداعية.
ولما كانت الحكمة ضالة المسلم أينما وجدها فهو أولى الناس بها، كان هذا الحوار الذى يمكن أن يتم عبره تبادل المنافع مع الغرب المتفوق في التكنولوجيا وفي القوة العسكرية والإعلامية ولا بد للمسلم أن يستفيد من كل هذه الأشياء.
إذن هناك معقولية من الخوف الذى نعبر عنه في موقفنا وتعاملنا مع هذه الحضارة في أن نحمي أنفسنا وهويتنا وقيمنا وتاريخنا وأصالتنا من الإنحراف والتزييف والتغريب والإستلاب. ولكن هذا لا يدعونا الى الإنغلاق والإنطواء على الذات وأن نسد كل الأبواب من حولنا ونعتبر أن كل ما يصلنا من الغرب مرفوض باعتباره شر مطلق ويزين لنا الكفر كما تصور ذلك بعض الكتابات الإسلامية التقليدية التى يفترض أنها انتهت.
ان الخوف من الغرب وحده ليس كافياً في رؤيتنا وتعاملنا معه كما أن حماية الذات إنما تعني الإهتمام ببناء الذات، البناء الذى يعطي التماسك والصلابة وهذا البناء لايكتمل إلا بالوعي الإيجابي والسليم في علاقتنا بالحضارة الغربية.
إن تطور العالم الحديث وثق الصلات العالمية وجعلها محوراً واحداً للتفاعل السياسي والإقتصادي والإجتماعي كما جعلها أيضاً محوراً للخطاب الفكري والثقافي. فلا مجال لنا في الواقع أن نعكف على ساحة خاصة داخلية. مما أوجد ضرورة عملية للحوار فرضها الوقع العالمي المؤسس على التواصل والتبادل والتفاعل والإعتماد المشترك بين الأمم والشعوب والجماعات والحركات وهذا يقتضى منا ويدفعنا إلى فهم الآخرين، تاريخهم وواقعهم وحقائقهم وامكاناتهم ومن ثم السعي إلى التدريب والتأهيل والتفاعل معهم وتأسيس أرضية ثابتة وراسخة من الفهم المتبادل والحقيقي لطبيعة كثير من الموضوعات المطروحة وعلاقاتها في هذا العصر ومحاولة الإلتقاء حول نقاط مشتركة في الحقوق والواجبات والعمل على التقريب بينها وتوسيعها للحيلولة دون ان تشكل عقبة في سبيل التفاهم والتفاعل الإستراتيجي.
يمثل التطرف الديني أحد الدواعي التى تحتم الحوار بين الإسلام والغرب فهنالك متطرفون من المسلمين كما يوجد في الجانب الآخر متطرفون أيضاً فإن تمثل متطرفو الإسلام في جماعات إسلامية تتخذ من العنف وسيلة للتغيير بدأته أولاً على مستوى الدول المسلمة كما هو الحال في جماعة التكفير والهجرة بمصر لتمتد أنشطة هذه الجماعة وتصبح عالمية يمثلها الآن تنظيم القاعدة الذى يقوده أسامة بن لادن وقد كان لعملياته الجريئة بكل من نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية ولندن ببريطانيا الأثر الكبير على واقع المسلمين مما عمق الصدام بين الحضارتين الإسلامية والغربية وما يقال عن التطرف بين المسلمين وأثره يمكن أن يقال عن التطرف الغربي الذى أصطلح على تسميته الصهيومسيحية وهو تحالف صهيوني مسيحي متطرف عنصري يعادي سائر الحضارات سيما الإسلام.
إن واقعاً كهذا يستوجب التحرك السريع عبر الحوار لتلافيه والحد من تفاقمه حتى لا تنهار الحضارة العالمية وهي تتخذ من الصدام منهاجاً للتعبير عن الذات والهوية.
مشكلات الحوار
ظلال الحملات الصليبية:
شهدت العلاقة بين الإسلام والغرب فترات من الشد والجذب تخللتها حملات عرفت في التاريخ بالحملات الصليبية والتى مثلت بعداً إضافياً لهذه العلاقة والتى أخذت منحى في التحرك الإستعماري الذى هيمن على معظم الدول الإسلامية لتصبح العلاقة بين المسلمين والغرب هي صورة هذا المستعمر الذى استباح الأرض وذهب بالخيرات التى بداخلها. «فالحروب الصليبية التى عرفت بهذه التسمية في الخطاب الغربي وحروب الفرنجة في الخطاب الإسلامي والتى دامت أكثر من قرنين من الزمن لا زال الغرب الى هذا اليوم يستعيد ذاكرة هذه الحروب». (24)
إن هذه الحروب وما تركته من آثار بالإضافة إلى الأثر الذى تركه المستشرقون بكتاباتهم عن الإسلام قد ترك ظلالاً قاتمة في العلاقة بين الإسلام والغرب.
غياب الرؤية الموضوعية في فهم الحضارة الغربية:
وضمن النقد الذي يوجه إلى الحضارة الغربية بأنها شارفت على الإنهيار وهذا الحكم وان كان مبنياً على بعض الحتميات والتى قد تكون سليمة ولكن القراءة من الزاوية الأخرى زاوية الدراسة والتحليل نجد أن هذه النظرة تتعارض مع قانون السببية لأن هذه الحضارة ما زالت تحتفظ لنفسها بأسباب البقاء والتفوق وفي مقدمة هذه الأسباب الأخذ بقانون العلم وتسخيره فيما يخدم رفاه وتقدم تلك المجتمعات فيما أن العلم ينهض بالأمم فإن هذا العلم جدير بأن يحتفظ بهذه الحضارة ردحاً من الزمان على الرغم من افتقارها لبعض القيم كما أن سقوط الحضارة الغربية لايعنى بأى حال من الأحوال اننا قد نكون البديل في كل شىء لأننا ما زلنا في مراحلنا الأولى من التقدم وسقوط أى حضارة تعنى الخواء الذى يدخل العالم في فوضى.
كما أننا نجد أن الإنتقاد الذى يوجه الى الحضارة الغربية يتمثل في الجانب الأخلاقي والإنحلال الإجتماعي الذي يسود الغرب حيث تفككت الروابط الأسرية وانتشرت الجريمة والمخدرات. هذه الحقائق الغرب نفسه يستشعرها أكثر منا فهم لا يتسترون على مثل هذه الجرائم بل ينشرونها على أوسع نطاق بواسطة الأجهزة الإعلامية وتعقد الحلقات العلمية والبحوث لدراسة هذه الظواهر حتى يأخذوا حذرهم.
هذه الأمراض التى نتحدث عنها في الغرب قد أخذت طريقها إلينا «ونحن في العالم العربي والإسلامي الذين نأخذ على الغرب هذه الظواهر المريضة هي ذاتها الظواهر التى نقلناها عنه الى بلداننا ومجتمعاتنا وهي التى نأخذها عنه حتى حين ذهبنا هناك للدراسة والتعلم». (25)
إن الإنتقاد الذى يوجه الى الغرب باعتبار أنه خال من القيم ومنهار في أخلاقه يأتى خطأ هذا الإنتقاد باعتبار أن حضارة الغرب كلها انحطاط في الأخلاق ولكن ليست هذه هي الحقيقة فالغرب تطور العلم فيه وبالإمكان أن يوازن بين تطوره العلمي وانحطاطه الأخلاقي لتتم الموازنة مع أولئك الذين لاعلم لهم ولا أخلاق.
كذلك يأتى نقد الخطاب الإسلامي للغرب من منطلق تلك المنهجية الهجومية التى اتصفت بها بعض الكتابات الإسلامية في وصم الحضارة الغربية بالجاهلية والمادية والعنصرية والإستكبار . وقد تكون هذه النعوت جميعاً صحيحة وان الغرب هو كل ما قيل عنه. ولكن هل يأتى هذا الهجوم على الغرب وبتلك الصفة بالفائدة لنا ويكشف لنا سر هذه الحضارة وكيف وصلت الى ما وصلت إليه من تطور تقنى علمي كبير ومذهل؟ وهل هذا الهجوم يؤثر على قناعات البعض في تلك الحضارة ويغير أفكارهم تجاهها؟. لا أعتقد أن الهجوم باستطاعته أن يزحزج عقيدة من آمن بالغرب ولربما أتى الهجوم بنتائج عكسية تماماً حيث ينبه الهجوم عن مواقع الخلل ويتم رتقها لتخرج الحضارة الغربية وهي في كامل عافيتها على غرار الهجوم الماركسي على الحضارة الغربية والتى أفادها كما يرى د. محمد عابد الجابري «لقد كان الفكر الإشتراكي العالمي يريد أن ينسف النظام الرأسمالي في أوروبا، ولكن الذى حدث، وهذا قيل منذ زمان هو أن الماركسية نجحت في تنبيه الرأسمالية الى نقط ضعفها. فعملت هذه على تلافيها وطورت نفسها فتجنبت المصير الذى تنبأت لها به الماركسية. لقد افرزت الماركسية إذن نقيض ما كانت قد قامت من أجله، لقد ساعدت الليبرالية على بناء نفسها وتجنب نتائج أخطائها». (26)
إن أسلوب الهجوم لا يقدم لنا شيئاً ولا يحل مشكلة ولا يغير شيئاً في تلك الحضارة. كما أنه لا يساعد على دراسة هذه الحضارة وفهمها ومن ثم الإستفادة منها.
لقد انطلقت بعض الكتابات الإسلامية في قراءة الحضارة الغربية بدافع الخوف من هذه الحضارة على المجتمعات الإسلامية التى كانت تزحف على الغرب وتغزوه ثقافـــــــياً حيث يخشى هـــؤلاء الكتاب أن تقوم الحضارة الغربـــــية بهجومهـــــــا المضاد على المجتمــــع الإسلامي فتغزوه بقيمها وتفرض عليه النموذج الغـــــربي في سلوكــــه وقيمه وينقطع المجتمع الإسلامي بالتالي عن جذوره وــــتراثه وتاريــــخه وهـــــويته لتتم السيطرة عليه أخيراً.
ان هذا الخوف له ما يبرره تاريخياً وموضوعياً حيث تاريخ الغرب يؤكد ذلك سواء في أمريكا الشمالية مع الهنود الحمر أو باقي الشعوب والأمم التى استعمرها الغرب.
إن الخوف من حضارة الغرب لم يكن بدعة أتي بها هؤلاء الكتاب الإسلاميين بل حتى المجتمع الغربي نفسه يخاف بأس بعضه. يرى الباحث الأسباني «أغناطـــيوس غويتــــــريث» بأن المجتمعات الغربية الهامشية تتعرض لغزو فكري وحشى من قبل السلطة المركزية «العالم الأنجلوسكسوني عــــــامة والأمريكي تحديداً يوجه هجوماًًَ وان هذا الهجوم المستمر يطال كذلك بلداناً كان لها دور حاسم في تشييد ما نعرفه بالغرب الحديث مثل فرنسا وألمانيا». (27)
هيمنة عقلية الصدام:
يرى المستشرق الفرنسي «مكسيم رودنسون» ان أكثر الدراسات الغربية القديمة والحديثة والمعاصرة عن الإسلام والعالم الإسلامي غالباً ما تنطلق من خلفية العداء للدين الإسلامي أو الخوف منه وتصل في المحصلة النهائية في هذه الدراسة لكثرة ما ترددت وما أجمع له من شواهد ووقائع تاريخية الى درجة بات من الصعب الخروج عليها أو التشكيك فيها. «ولقد درست بشكل خاص أفكار الأوروبيين عن الدين الإسلامي لكن كل العالم يبدو لهم موضوعاً لدهشة أو فضيحة، يمكن باختصار تمييز ثلاثة وجوه لهذا الإدراك. عالم الإسلام هو قبل كل شىء بنية سياسية - أيديولوجية معادية، لكنه أيضاً حضارة مختلفة ومنطقة اقتصادية غريبة هذه الوجوه المتنوعة تثير مواقف فضول ورد فعل من أنواع مختلفة عند الأفراد انفسهم في أحيان كثيرة». (28)
هذه الدراسات وان جاءت من مستشرق محايد إلا أنها تشير الى حقيقة علاقات الغرب بالإسلام والعالم الإسلامي وانها علاقة صدام ونزاع ومن أحدث الدراسات التى حاولت تأكيد هذا المعنى وتوظيفه ما قام به صامويل هانتغتون إذ يقول «إن النزاع وفق خط الإنقسام بين الحضارتين الغربية والإسلامية مستمر منذ 1300 سنة فبعد صعود الإسلام انتهى اكتساح الغرب للعرب والشمال في تور عام 732م ومن القرن الحادي عشر الى القرن الثالث عشر حاول الصليبيون بنجاح مؤقت الإتيان بالمسيحية والحكم المسيحي الى الأرض المقدسة وفي القرن الرابع عشر الى القرن السابع عشر، قلب الأتراك العثمانيون الميزان ومدوا سيطرتهم على الشرق الأوسط والبلقان واستولوا على القسطنطينية، وحاصروا «فينا» مرتين وفي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ومع إنهيار القوة العثمانية فرضت بريطانية سيطرة الغرب على معظم شمال افريقيا والشرق الأوسط» (29) يصل صامويل في نهاية الأمر من هذا التاريخ الذى يصوره على أنه مثقل بالنزاع والصدام الذى يمتد عمره قروناً من الزمان بين الغرب والإسلام ليس من المرجح له أن ينحسر بل قد يصبح أكثر خطراً في المستقبل.
تفوق الإسلام:
من المشكلات التى تواجه حوار الإسلام مع الغرب وتؤثر على نظرة الغرب للإسلام انه يجد في هذا الدين بعض الصفات التى تميزه عن بقية الأديان التي يعرفها كالمسيحية واليهودية فهو يمثل نموذج حياة خلاف بقية الأديان التى تعالج الجانب الروحي فحسب فالإسلام يعالج بالإضافة الي الجوانب الروحية الجوانب السياسية والإقتصادية والإجتماعية وغير ذلك. وان من يعتنقه يكتشف التحضر والتقدم من داخل هذا الدين في حين أن الغرب لا يرضى بمن ينافسه في الدين أو أن يقدم نموذجاً للتقدم وهذا سر عداء الغرب للإسلام مما جعل الغرب يصب جام غيظه في الإسلام.
فالحيوية التى يتمتع بها الإسلام والتى عبر عنها رودنسون بالجاذبية هي التى جعلت من هذا الإسلام يتغلغل بين مختلف الطبقات والفئات لأنه يملك الفاعلية التى تجدده وتحفظ كيان معتنقيه من أى غزو فكري أو ثقافي حيث يصعب إختراق المجتمع المسلم وطمس هويته.
خطأ المنهجية المعرفية:
ضمن المشكلات التى تواجه حوار الإسلام والغرب هو خطأ المنهج للحصول على المعرفة حيث أن كل الطرق التى أخذ منها الغرب تكوين رؤيته عن الإسلام ليست هي الطرق التى تصل به الى تشكيل رؤية موضوعية وعلمية عن الإسلام فهو يأخذ من الإستشراق وأهدافه المعروفة ثم اجهزة الإعلام وإثاراتها المعهودة وغير ذلك من الطرق الملتوية التى يتخذها الغرب لمعرفة الإسلام وتأتى حصيلة ما عرفه عن الإسلام كلها لا تعدو إنطباعات جاءت إليه من مصادر مشبوهة تتعمد الإساءة.
إن الإسلام والغرب قضية حضارية كبرى يتجدد الحديث حولها على نطاق عالمي واسع وتصوره ملحوظة ومميزة والتنافس بين الحضارتين سيظل هو الأصل على مستوى تصادم الحضارات العالمية والى ذلك أشار الصحفي «بريان بيدهام» الصحفي في مجلة الأيكونوميست «ان السبب الجوهري للإعتقاد العام بأن الثقافة الإسلامية هي المنافس الفكري الوحيد للغرب في نهاية القرن العشرين يكمن في أن الإسلام مبنى على يقين جازم بأنه فوق الأسس التي يضعها البشر أى هو كلمة الله التى أوصى بها على مراحل لمحمد صلى الله عليه وسلم وبدأت في زاوية يملؤها الغبار في الجزيرة العربية منذ أكثر من 1400 سنة مضت». (30)
وهذا يؤكد على حيوية هذه القضية وحساسيتها خصوصاً مع ما يشهده العالم من تغيرات وتحولات بالغة الأهمية والخطورة وهو على مشارف القرن الحادي والعشرين. كما يؤكد من جهة على أن القلق التاريخي الذى أصاب هذه القضية لا زال يتجدد اليوم، وان الجدل الشائك الذى استمر الى زمن طويل لم ينقطع مع ما مرت عليه من فترات جمود.
حيث هناك إصطدام بين رؤيتين. فالغرب لا يقبل بالرؤية التى تشكلت حوله في العالم الإسلامي والفكر الإسلامي، والتي تنظر اليه من زاوية الجريمة والعنف والإنحلال الأخلاقي وظواهر الإنتحار والمخدرات وغيرها.
بينما نجد من جانب آخر أن الفكر الإسلامي لا يقبل للغرب رؤيته لعالم الإسلام التي تتمحور في العادة حول قضايا الجهل والتخلف واضطهاد المرأة والارهاب وغيرها. فخروج كل عالم من رؤيته وأسرها وضيقها وقصرها الى رؤية أكثر رحابة وانفتاحاً وموضوعية يظل هو الأصل الصعب.
والأصعب من كل ذلك هو تشكيل روية قائمة على التفاهم والشراكة الحضارية.
متطلبات الحوار
تشجيع الخطاب المعتدل:
من متطلبات الحوار تشجيع الخطاب المعتدل والموضوعي الذى يصدر من بعض الباحثين والمفكرين الغربيين والذين غالباً ما تكون نواياهم صادقة وبذات القدر على الخطاب الإسلامي أن يكون موضوعياً هو الآخر وبتكوين هذا التيار المعتدل من الطرفين بإمكان الحوار أن يمضي قدماً وقد تحدث بعض المنصفين من الغرب عن الإسلام بموضوعية أمثال الإنجليزي مونتجووى وات حيث تحدث عن فضل الإسلام على الحضارة الغربية وكيف أن الإسلام هو سر نهضة الغرب. (31) كما أخذ نفس المنحى الباحث الأمريكي في شؤون الأديان «استانوود كيا» في كتابه «المسلمون في تاريخ الحضارة» حيث تحدث الكاتب عن الحضارة الإسلامية وتفردها بين الحضارات لأنها قامت على مبادىء من القيم والسماحة. (32)
إن تشجيع الخطاب المعتدل ينبغي أن يقوم به أيضاً الكتاب المسلمون الذين يستطيعون بكتاباتهم عن الحضارة الغربية عكس الشق المضىء فيها والبعد عن عدم الموضوعية وتسليط مزيد من الأضواء على الجوانب المضيئة في الحضارة الغربية.
الفهم العميق:
كذلك من الإنتقادات التى يمكن أن توجه للخطاب الإسلامي تجاه الغرب هو افتقاد هذه الكتابات للعمق والإستيعاب في قراءة الحضارة الغربية ونقدها وبالذات في جوانب النقد الفلسفي حيث أنها نتاج تراكمات كثيرة من الفلسفات ذات المنزع الإجتماعي والأخلاقي والعقلي والمنطقي والسياسي والإقتصادي والقانوني وشهدت خلال تاريخها أجيالاً من المفكرين والفلاسفة الذين تركوا تأثيرهم على الثقافات العالمية وهي الحضارة التى ارتقت بالعلم الى أرفع مستوياته وحققت كل هذه الإنجازات والمكاسب التى يستفيد منها كل العالم. حضارة في مثل هذا المستوى لا يمكن أن نفهمها في جوهرها بأسلوب انشائى أو خطابي أو تعبوي كما هو الحال في المسيرات والمظاهرات التى تندد بأمريكا مثلاً وتصفها بكل شر. ان مثل هذه الأساليب تفتقر الى الإحاطة بعلوم الغرب وفلسفاته وتاريخه.
فالمطلوب ان تتم الدراسة على درجة كبيرة من العمق لفكر الحضارة الغربية وفلسفتها ونظرياتها العلمية ونظمها القانونية وأن نبذل من الجهود العلمية والبحثية والتخصصية وفي مجال الترجمة والتحقيق أكثر مما بذله الغرب في دراسة الإسلام عبر القرون حيث ساعدت هذه الدراسة على نهضته. لنفعل ما فعل الغرب من دراسة عميقة لنصل الى ما وصل إليه لا نكتفي بالإنتقادات السطحية لواقعه. ولعل هناك كتابات إسلامية جادة عميقة تصب في هذا الإتجاه أمثال كتابات محمد إقبال «تجديد التفكير الديني في الإسلام» والمفكر مالك بن نبي الذى قدم رؤية حضارية في التعامل مع الغرب.
من الملاحظ كذلك حساسية الكتابات الإسلامية عن كل ما له علاقة بالغرب. ولعل هناك من يبرر هذه الحساسية من طبيعة التاريخ الذى حكم علاقة الغرب مع الإسلام. ولكن هذه الخلفية ينبغى أن لا تسلب العقل وتأسر العاطفة ويتم التعامل بسلبية فالمنهج الإسلامي يدعو إلى إتباع أحسن القول بعد سماعه وقد جاء في القرآن الكريم «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب». «الزمر 18».
الإيمان بالشراكة الحضارية:
إن تشكيل رؤية قائمة على التفاهم والشراكة الحضارية أو ما يعرف بالندية يمكن لمثل هذه الرؤية أن تسهم في إنجاح الحوار ولكن قد تقتضى مثل هذه الأطروحات ان يقدم كل طرف تنازله حتى تكون هنالك أرضية للتفاهم وقد يوافق المسلمون من جانبهم على تقديم هذا التنازل مالم يصطدم بجوهر العقيدة الإسلامية ما دام الأمر يفضي الى تقارب وجهات النظر وإقامة العلاقات على قاعدة من الندية وليست الندية الحضارية لأن حضارة الغرب القائمة على الجانب المادي تظل غير معترفة بغيرها من الحضارات الأخرى ومن جانبها نجد أن الحضارة الإسلامية الراسخة في قيمها الأخلاقية والروحية تظل غير معترفة بحضارات وضعية ولكن التوفيق يكون في تقديم الحضارة الإسلامية الجانب الروحي والأخلاقي للخواء الغربي بينما يقدم الغرب العلم والتكنولوجيا وتتم المواءمة وهكذا تشكل الرؤية القائمة على التفاهم والشراكة الحضارية.
الشمول:
يجب أن يكون الحوار مع الغرب حواراً شاملاً على كل ضروب الحياة حيث نستطيع بذلك أن نقدم الإسلام بشموله الى العالم بما فيه الغرب ونستطيع أن نقنع الآخرين باتباع وجهتنا فلا بد من تهيئة كل الثغور بالحوار الطلابي الصحفي والإعلامي والدبلوماسي والعلمي والسياسي والإقتصادي والفني، حوار من خلال المنظمات العالمية المختلفة، حوار في مجالس الأديان وحوار في المجالس العلمية والسياسية وحوار في ميادين التبادل الفني والرياضي والإعلامي، وكيفما كانت شعاب الحياة تصلنا بهم وقطاعات المجتمع التى نتصل بها فلا بد أن ندخل بالحوار في كل مناشط حياتهم والحوار بذلك ليس مقصوراً بين شريحة المتجردين المثقفين فقط من الذين يحاورون نخب الفكر فقط بل هو دعوة شاملة ومتكاملة تتفاوت درجات تكاملها.
وسائل الحوار:
يمكن أن تكون أساليب ووسائل الحوار في القدوة الحسنة، والخطاب والمنابر والمؤتمرات، الندوات، الكتب والصحف والمجلات وتبادل الزيارات، وعبر الإذاعة والتلفاز، وسائر وسائل الإتصال تسخر لإدارة مسالك لحوار شامل تتمثل مجالاته في التجارة والسياسة والرياضة والفن والتبادل العلمي والثقافي والإقتصادي، وإنشاء مراكز إسلامية ومساجد لنشر العقيدة والثقافة الإسلامية في الغرب والقيام بالمبادرات ومد جسور الإتصال والنشر والحضور المستمر في الإعلام الغربي وتنظيم معارض ومهرجانات ودورات لتعليم اللغة العربية والغرب بدوره هو المبادر في كل هذه المجالات حيث تفوق علينا بمراكزه الثقافية والتجارية التى ينشئها في بلاد المسلمين وبقليل من التنسيق يمكن أن يتم الحوار وينتظم.
هذه هي مجموع الوسائل والأساليب وان كان التطور الذى حدث في عالم الإتصال بدخول الانترنت والأطباق الفضائية يضفى على وسائل الحوار بعداً آخر لذلك يصبح المطلوب هو أن يقوم هذا الحوار مع مراعاة أن وسائله واساليبه سوف تتجدد بتجدد الأجهزة الإتصالاتية والتمكن من استخدامها وما لا شك فيه ان بزوغ الصحوة الإسلامية سوف ييسر الكثير من عناء هذه الوسائل والأساليب في مجال الحوار.
يكون الحوار مع الغرب في شكل مبادرات فردية من بعض الدعاة كما هو الحال في مبادرات ومناظرات العالم المفكر بجنوب افريقيا أحمد ديدات أو في شكل إتصالات دولة تطبق الإسلام شريعة ومنهاجاً كما فعل الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي الذى فتح حواراً مع الغرب زار بموجبه الفاتيكان.
المراجع:
1 . أزمة الفكر الإسلامي الحديث، د. محمد عمارة، دار الفكر دمشق، ط1، 1998م، ص 63 - 64 .
2 . الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية، فريد عبد الخالق، مكتبة مدبولي، 1989م، ص 96 .
3 . أمريكا والفرصة التاريخية، ريتشارد نيكسون، ترجمة محمد زكريا اسماعيل، مكتبة بيسان بيروت 1992م، ص 19 .
4 . الإسلام دين المستقبل. روجيه جارودي، ترجمة عبد المجيد بارودي، بيروت، دار الإيمان، ط 1983م ص 175 .
5 . الإسلام والغرب، ص 53 .
6. Brian Beedham, Islam and the west, the Economist August 6th 1994 pg 15
7 . تاريخ الفلسفة فى الاسلام ، مصطفى عبدالرازق ، مكتبة النهضة المصرية القاهرة 1966م ص 417
8 . الفكر العربى ومركزه فى التاريخ دى لاس اوليرى ترجمة اسماعيل البيطار بيروت 1972م ص 234 0
9 . المرجع السابق ص 237، 238 0
10 . المرجع السابق ص 243 0
11 . تراث الاسلام لشاخت وبوزورث ، ترجمة د0حسين مؤنس واحسان العمد ، القسم الثانى ص 266 ، 227 ، سلسلة عالم المعرفة بالكويت نوفمبر 1987م 0
12 . الفلسفة الإسلامية وتأثيرها الحاسم في فكر الغرب، سلفادور غومث نوجالي، ترجمة عثمان الكعاك، الدار التونسية 1977م، ص 46 .
13 . المرجع السابق ص 53 0
14 . تراث الاسلام ص 266 0
15 Fiacher Lexikon p.139 .
16 . الفكر العربى ومركزه فى التاريخ ص 239 0
17 . المرجع السابق ص ، 240 0
18 تراث الاسلام مرجع سابق، ص، 262 0
19 . والفكر العربى ومركزه فى التاريخ، مرجع سابق ص 546 0
20 . Handwoerterbuch des Islam ,p.142,Lieden 1976 . 0
21 . الفلسفة الاسلامية وتاثيرها الحاسم مرجع سابق ص، 64 0
22 . دور الإسلام في تطور الفكر الفلسفي د. محمود حمدي زقزوق مكتبة وهبة ط 1984م ص 36 .
23 . المرجع السابق. ص 39 .
24 . الإسلام والغرب مرجع سابق، ص، 16.
25 . الإسلام والغرب، ص 37 .
26 . مجلة المستقبل العربي «لبنان» السنة الثامنة عشر العدد 197 سنة 1995م .
27 . مجلة الحياة، لندن. العدد 11954 - 14 نوفمبر 1995م مقال تحت عنوان تأملات في الإستغراب.
28 . جاذبية الإسلام، مكسيم رودنسون، ترجمة الياس مرقص، دار التنوير، بيروت ط 1982م، ص 18 .
29 . صدام الحضارات مجموعة من الكتاب، مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث، بيروت 1995م.
30 . . Brian Beedham, Islam and the west, the Economist August 6th 1994 pg 15
31 . فضل الإسلام على الحضارة الغربية بيروت دار الشروق، ترجمة حسين أحمد، ط 1983م.
32 . المسلمون في تاريخ الحضارة، ترجمة دكتور محمد فتحي عثمان، دار السعودية للنشر، جدة، 1982م.