نرقع دنيانا بتمزيق ديننا، فلا تبقى دنيانا ولا يبقى ما نرقعه.. فهل حقا أضحت الوسطية محاولة لتمزيق ديننا للحفاظ على بقاء دنيانا؟ أم أنها طريقة ومنهج إنساني هذبه الإسلام ليكون منهجا للأمة الوسط؟
اختلاف في الرؤى بين معسكرين، أحدهما يرى الوسطية طوق نجاة إسلامي أمام العالم أجمع، مؤكدين أن أزمتها أزمة تطبيق، الأمر الذي جعل البعض يرى ضرورة تحولها إلى مشروع تطبيقي تتعامل به كل مؤسسات الأمة.
وفي المقابل رفض الكثيرون أن تتحول الوسطية بمفهومها الواسع إلى مشروع يتم استغلاله من قبل هيئات أو دول أو جماعات، خصوصا أن هناك كثيرين ممن يتربصون بالإسلام لتوجيه مصطلح "الوسطية" بما يتناسب مع توجهاتهم وأهدافهم.
الوسطية فطرة الإسلام
د.صلاح-الجعفراوي
الدكتور صلاح الجعفراوي -ممثل منظمة الإيسيسكو في أوروبا والأمين العام المساعد للمؤتمر الإسلامي الأوروبي والأمين العام المساعد للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة- يعد من جبهة المؤيدين لجعل الوسطية مشروعا إسلاميا.
وفي شرح لمعنى الوسطية قال الجعفراوي: إن الوسطية هي فطرة الإنسان وتعني أنه لا إفراط ولا تفريط، والدين الإسلامي بالقطع هو دين وسط ويدعو إلى الوسطية، ولكن مع ظهور بعض الهيئات والجماعات، سواء الرسمية أو الشعبية، لمحاولة إيجاد مفهوم خاص للوسطية أو توجيهه توجيها خاصا ليتناسب مع توجهاتهم، أصبحنا نرى مفاهيم للوسطية بعيدة تماما عن المفهوم الصحيح لها، مؤكدا أن هناك من يطوعون مصطلح الوسطية بما يتناسب مع وجهة نظرهم، وهو أمر تتسم به بعض الجماعات والأحزاب.
ويؤكد الجعفراوي أن الوسطية يجب أن تكون مشروعا وليس موقفا، على اعتبار أن الإسلام هو دين الوسطية، ويشير إلى أن هناك جهودا طيبة، سواء في الكويت أو الأردن أو مصر، تحاول أن تبرز مفهوم الوسطية، ويجب توحيد هذه الجهود من أجل أبراز مفهوم الوسطية.
التوظيف السياسي للوسطية
ويحذر الدكتور صلاح من التوظيف السياسي لمفهوم الوسطية، ويعتبرها قضية خطيرة، خاصة بعد عاصفة 11 سبتمبر، حيث بدأت بعض الجهات بالتوظيف السياسي لكلمة الوسطية من أجل إبعاد تهمة الإرهاب أو التطرف عن الأنظمة السياسية الحاكمة حتى لا يحدث لها ما حدث في العراق.
وأكد أن البعض يريدون إبعاد هذه الشبهة للوصول إلى علاقات مميزة مع الغرب أو الجهات التي تحارب علانية الإسلام مثل أمريكا، وهناك أيضا بعض المؤسسات الإسلامية التي تسعى لتخفيف الضغط عليها لتوضيح مفهوم الوسطية حتى يرضى عنها الغرب، ومن هنا كان التوظيف السياسي "للوسطية".
ويشدد على أن المفاهيم المتعددة للوسطية وكذلك الضغوط الموجهة إلى العالم الإسلامي، سواء إلى القيادات السياسية أو الشعبية، هي للأسف التي تجعل من بعض تلك القيادات بوقا لإطلاق مفاهيم خاطئة عن الوسطية في محاولة لإرضاء الغرب.
ويطالب بضرورة أن نخرج أنفسنا من قفص الاتهام الذي دخلناه بإرادتنا، ونحن نعلم تماما أننا لسنا مذنبين، وأن نظهر ما عندنا من ذخائر ومبادئ تحتاج إليها البشرية، خاصة في هذه الظروف الصعبة التي نمر بها.
وحول المسئول الحقيقي عن تطبيق الوسطية وجعلها مشروعا يرى الجعفراوي أن الجميع مسئول "الحكومات والشعوب والمؤسسات الإسلامية والأفراد"، حيث إن الإنسان يجب أن يكون في أموره الحياتية "وسطا" بعيدا عن الإفراط والتفريط، بعيدا عن التسيب والتطرف.
منهج وليس أيديولوجيا
د. إبراهيم أبومحمد
وعلى عكس ما طرحه الدكتور الجعفراوي يرى الدكتور إبراهيم أبو محمد، رئيس المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية، أن الوسطية لا يمكن أن تكون أيديولوجية لأنها منهج تربوي ينبغي أن يكون من نسج العقل قبل أن تكون أيديولوجية، كما أشار إلى أن تطبيق الوسطية كمنهج دون أن تكون نسيجا في ثقافتنا السياسية والاجتماعية والإنسانية يعرقل انتشارها، ومن ثم إذا تبنتها مؤسسات لجعلها مشروعا فهذا سيفرغها من محتواها لسوء التطبيق، وأحيانا لسوء الفهم، وإذا تبنتها الدول فقدت موضوعيتها لأن الدول "تسيسها" لصالحها.
كما يشير إلى خطأ جسيم هو أننا لا نتحدث عن الوسطية إلا عند الأزمات فقط، حيث نستدعي من التاريخ والذاكرة مبدأ تم تغييبه، مع أنه من المفروض أن يكون حاضرا في الثقافة والمعرفة ومناهج التربية والسلوك العام وفي الخطاب العام والسياسي والديني والاقتصادي.
ويضيف أن فشلنا في استدعاء الوسطية عند الأزمات يؤكد أن قضية التطبيق لا تتعلق بنظام أو مؤسسات تتبنى مشاريع للوسطية، وإنما تتعلق بحاجتنا للوسطية كمنهج في التربية والتزكية والتصورات، بحيث يرتبط المفهوم بالسلوك والممارسة.
ويستطرد الدكتور أبو محمد قائلا: "إن الحديث عن مشاريع لمناهج أصيلة يؤكد أن لدينا مشكلة مع الإسلام عموما؛ لأننا نتعامل معه كضيف عندما يموت لنا عزيز، وليس كرب البيت، وحين نتعامل مع الإسلام كرب البيت فلن تكون هناك مشكلة، خاصة أن العلاقة الطبيعية بالإسلام لا تقوم على مبدأ الانتقاء بأن نأخذ منه ما يروق لنا ونترك الباقي، ومن ثم حين نتحدث عن الوسطية فلا بد أن نتحدث عنها كمفردة ضمن منظومة كبيرة هي المنظومة الإسلامية".
ويختتم الدكتور إبراهيم رأيه بقوله: ينبغي أن تكون الوسطية جزءا من تكويننا، لأن وضعها مشروعا يخرجها من مشروع تكويني لمشروع مادي، ولا بد أن تكون جزءا من المكون الثقافي والمعرفي والمنظومة الكبيرة التي نطبقها ونعمل معها.
أساس لمشروعات
د. عبدالمعطي بيومي
أما الدكتور عبد المعطي بيومي، عضو مجمع البحوث الإسلامية، فيرى أن الوسطية ينبغي أن تكون قوام مشروع حضاري للأمة، وليست هي مشروعا في حد ذاته.
ويوضح قائلا: "إن المشروع يتناول فلسفة معينة تقوم على منهج، فيراعى فيه جميع التفاصيل والمواقف، بحيث يكون المشروع الحضاري هو الذي يمثل فلسفة الأمة الإسلامية، والذي يمثل روحا سارية في كل المواقف، وهذا يعني أن تكون الوسطية هي قوام مشروع الأمة، أما المشروع نفسه فهو عبارة عن مواثيق يجب أداؤها في التفاصيل والمشكلات التي تواجه الأمة، سواء في طريقة الحكم وإدارة الحكم والغايات التي يعمل كل المواطنين على تنفيذها.
ويضيف أن المشاريع بها ثوابت ومتغيرات، فالثوابت تمثل فلسفة الأمة وهويتها، وتنفيذ هذه الرؤية يقوم على الوسطية، فالوسطية لا بد أن تكون أساس أي مشروع من حيث الثوابت، ويتم الاعتماد عليها في كل مجال حتي في الانتخابات والقرارات.
ومع ذلك فإن الدكتور بيومي يرى كذلك صعوبة التطبيق العملي للوسطية عند تنفيذ مشروعات الأمة، ويرتبط هذا برغبات طوائف وأحزاب معينة، لأن فلسفة تلك الأحزاب هنا ليست الوسطية، وإنما السعي للسلطة وتحقيق المصلحة.
قاعدة شرعية
د.سعاد صالح
في شرح لمعنى الوسطية ترى الدكتورة سعاد صالح، أستاذة الفقه بجامعة الأزهر، أن الوسطية في مجموعها تعني العدل والاستقامة والخيرية والسداد وتصفية النفس من الأحقاد والعداوة للآخرين، والاعتدال في الاعتقاد والموقف والسلوك، والجمع بين الماديات والروحانيات، وعدم الغلو في الدين لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
كما رفضت جعل الوسطية مشروعا، معللة ذلك بأن الوسطية تمثل قاعدة شرعية ثابتة وليست مشروعا قابلا للنجاح أو الفشل، حيث يقول تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا"، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه".
وأوضحت أن هناك أحاديث ونصوصا جعلت الوسطية هي أساس للقاعدة الشرعية، وبها نتميز عن الديانات السابقة، حيث كانت هناك أغلال على الأمم السابقة، وجاء الله على يد نبيه وأزال هذه الآثار، وتستطرد الدكتورة قائلة: "إذا كنا نرفض مسألة المشروع فإننا نؤكد أهمية أن تظهر الوسطية من خلال سلوكياتنا".
وتؤكد أنه لا بد أن يكون هناك مشروع لتوضيح الوسطية يشخص أسباب العنف، والتي من أهمها الجهل بفقه الاحتساب، فالبعض يعتبر أن أي خطأ لا بد أن يقاوم، لكن الكيفية مجهولة، وكذلك عملية توضيح الولاء والبراء وأنه لا يمنع من المعاملة الحسنة مع غير المسلمين.. بل إن المسلم مأمور بالعلاقة الحسنة مع غير المسلم في التعريف بالإسلام ومحاسنه.
وتشير الدكتورة سعاد صالح إلى مجموعة أخرى من القيم لا بد أن يتم التعريف بها من خلال مشروع ثقافي يبنى على أساسه تطبيق الوسطية كقاعدة وليس كمشروع، أهمها العدل في معاملة غير المسلمين، خاصة أن قيمة العدل تكاد تكون اختفت من مجتمعاتنا في هذا الوقت.
وتؤكد أن من أهم تطبيقات الوسطية حفظ العهد بين المسلمين لقوله تعالى: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ"، خاصة أن المسلم الآن أصبح يتسم بعدم الالتزام والوفاء بالكلمة، وهذا أعطى خصوم الإسلام نظرة للمسلمين بأنهم لا ذمة لهم ولا عهد، مع أن القرآن ألزم المسلمين بالعدل وحفظ الكلمة، والرسول يقول: "أيما رجل أمنه رجل على دمه فقتله فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة"، فالغدر بغير المسلمين أو ظلمهم أو إباحة دمائهم بزعم الولاء والبراء يتناقض مع أسس الإسلام والوسطية.