ويؤكد الدكتورمحمود عاكف في افتتاحية الكتاب على أن الحضارة التي نشأت وتكونت مع هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى قد قامت على أساس مهم جدا وهو بناء الإنسان وصياغته صياغة إسلامية في جوانبه المختلفة سواء العقلية أو الروحية أو البدنية، وعندما تحققت هذه الصياغة الإسلامية للإنسان بدأت الثمار تتوالى من فتوحات وإنجازات في مجالات الحضارة المختلفة من علمية وثقافية وأدبية وفنية وغيرها من المجالات، وقد تميزت الحضارة الإسلامية عن باقي الحضارات قديما وحديثا بأنها حضارة قامت على أساس هذا الدين الشامل، حيث نبغت وتفوقت وأبدعت في مختلف مناحي الحياة، وهذا قلما نجده في الحضارات الأخرى التي نجد معظمها قد تفوق في مجال من المجالات إما في مجال الطب أو مجال الفلك أو مجال الفلسفة أو مجال الفنون، فكما أخذت الحضارة الإسلامية الشمول من الدين الإسلامي فإنها قد أخذت منه أيضا -فيما أخذت- الوسطية؛ لذلك فالحضارة الإسلامية حضارة وسط.
مفهوم الحضارة وتطورها
ويعرف الأستاذ محمود عاكف الحضارة بأنها زثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته والرقي بها سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودا أم غير مقصود في المجالين المادي والروحيس؛ لذلك فهي مرتبطة بالزمن لأن كل جهد إنساني يحتاج إلى زمن لكي يؤتي ثماره الحضارية كاملة كما تحتاج الشجرة إلى الزمن لكي تنضج ثمارها. ومن هذا التعريف يتضح أيضا أن أي إنتاج ينتجه الإنسان لا يدخل في دائرة الحضارة ما لم يتداول ويشيع وتتم الفائدة من ورائه، فأي اختراع لا ينتشر ولا يُوَظف لمصلحة البشرية لا يعد إسهاماً حضاريا؛ لأن هذا الاختراع لم يشع استعماله ولم تعم به الفائدة وإنما أصبح دليلا على عبقرية المخترع.
ولقد شبه كثير من المفكرين و المؤرخين الغربيين القدامى بين أطوار حياة الإنسان وحركة الحضارات، وهذه الأطوار الحضارية والتدرج في مراتب الحضارة حتى اندثارها يعود ذكما يقول أصحاب هذه النظرية- إلى أن الحضارة تضعف من يملك أسبابها ويطمئن إليها ويستسلم لنعيمها فتخور قوته ويقل حماسه للجهاد ويستولي عليه الترف فيفسد ويضمحل، وهذا القول يجانبه الصواب؛ لأن الحضارة تقوي الإنسان ولا تضعفه لأنها معارف وعلوم وخبرة وتجارب وكل هذا يزيد ملكات الإنسان وتفجّر فيه ينابيع القوة. ولكن سوء استخدام هذه العلوم والمعارف هو ما يؤدي إلى الفساد.
وهذه الظاهرة لخصها المؤرخون وأصحاب الفكر فيما يطلق عليه بسيطرة أدوات الحضارة على الإنسان وليس سيطرة الإنسان على أدوات الحضارة، وليس المقصود هنا هو عدم السيطرة على أدوات الدمار من أسلحة وبارود وخلافه فقط ولكن هو عدم التحكم في شهوات الفرد ورغباته فالإسراف في أي شيء حتى الطعام والشراب يؤدي إلى الإفساد والضرر.
ثم يطرح الدكتور عاكف تساؤلا مهما في هذا الصدد: هل الحضارات تتصارع كما تتصارع الأمم والدول في ميادين الحرب والسياسة والرياضة وغيرها من مجالات التنافس؟ ويجيب بالإثبات فالحضارات تتصارع وهذا أمر غير صحي لأنه يهدر موارد البشرية كما تهدرها الحروب بين الدول. فكل أصحاب حضارة أو ثقافة يودون أن تكون لهم السيطرة والانتشار من خلال نشر ثقافتهم وفكرهم في مدى أوسع من الدول وبين عدد أكبر من البشر. والصراع الحضاري قد يأخذ أشكالاً مادية -الصراع على الوصول أولاً للقمر- أو أشكال فكرية مثل التي بين اللبرالية والشيوعية.
نشأة الحضارة الإسلامية وسكونها
الحضارة الإسلامية لم تمر بمراحل الصعود المتدرج
وإنما ولدت حضارة عظيمة منذ أول يوم
تحت هذا العنوان يؤكد الدكتور محمود عاكف أن الحضارة الإسلامية لم تمر بمراحل الصعود المتدرج وإنما ولدت حضارة عظيمة منذ أول يوم ذلك لأن الهدف من التقدم الحضاري هو الوصول بالإنسان إلى أعلى مراتب التحضر من خلال التعامل مع مكونات الكون طبقا للناموس الإلهي وفهم الأدوار المختلفة لهذه المكونات وتوظيفها في خدمة الإنسان حتى يحقق رسالته، ومن هنا فإن الحضارة الإسلامية منذ نشأتها مع هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قد وصلت إلى أعلى مراتب التحضر من خلال صياغتها للإنسان المسلم الصياغة التي يستطيع بها أن يتعامل مع الخلائق المتعددة بالطريقة المثلى، أما الحضارات الأخرى فقد كان للإنسان دور رئيس في تكوينها وتطويرها وبالتالي فإنها تحمل في طياتها بذور فنائها نظرا لقصور القدرة الإنسانية مهما بلغت من عبقرية.
ولقد نشأت الحضارة الإسلامية - ولا نقول صعدت لأنها لم تتدرج مثل باقي الحضارات في الصعود ذ واستطاعت خلال سنوات معدودة أن تسود الجزيرة العربية وأرض الرافدين وبلاد الشام، في فترة لم تتجاوز عشرين عاما، كما أنها خلال هذه الفترة أخضعت حضارتين كبيرتين في ذلك الزمن هما الفرس والروم. ثم فتحت مصر وشمال أفريقيا حتى وصلت إلى بلاد المغرب العربي وساحل المحيط الأطلنطي وأصبح البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية عربية، واستطاعت الحضارة الإسلامية أن تقدم للبشرية الكثير من العلوم والمعارف والفنون، ثم أصيبت هذه الحضارة بكمون وسكون ، ونظرة على الواقع نجد أن المسلمين أصحاب هذه الحضارة العظيمة متخلفون بمقاييس عديدة، منها: العلم والاقتصاد والمعرفة وغيرها من المعايير.
الحضارة الوسط الوظيفة والدور
وهنا يطرح الدكتور عاكف تساؤلا مهما، وهو: هل الحضارة الإسلامية مثل بقية الحضارات أخذت دورها في التاريخ وصعدت وهبطت وقامت بتسليم الراية الحضارية لحضارة أخرى وهي الحضارة الغربية الحديثة!! أم أن الحضارة الإسلامية نسيت وفقدت دورها ووظيفتها التي قامت من أجلها وبالتالي تراجعت عن مكانتها الأصلية والمؤهلة لها حتى تسترجع دورها الذي يجب أن تقوم به؟.
وللإجابة على هذا السؤال لابد من دراسة التاريخ الإنساني لنجد أن لكل حضارة من الحضارات التي مرت في العصور المختلفة دوراً ,كان يجب عليها القيام به في ظل الأوضاع العالمية والإنسانية التي كانت سائدة في وقتها، ثم تقوم بتسليم الراية إلى حضارة أخرى، وإذا أردنا معرفة أسباب كون الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوسط فإننا يجب أن نعود إلى مصدر هذا الدين وأساس تشريعاته وعقيدته، وهو القرآن الكريم، فنجد أن الآية الكريمة من سورة البقرة تقول: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا". سورة البقرة آية :143. من هنا نتيقن أن الوسطية وظيفة، ودورها الأساسي هو الشهادة على الأمم والحضارات الأخرى المختلفة. كما يتضح لنا لماذا يجب أن تكون الحضارة الخاتمة هي الحضارة الوسط لأن متطلبات الشهادة الصادقة -وهى الدور- أن يكون الشاهد وسطا لا يميل يمينا ولا شمالا حتى تكون شهادته صحيحة.
منطلقات وأسس الحضارة الوسط
ولكي تعود الحضارة الوسط على أساسها لابد من الانطلاق من منطلقات عديدة هي بمثابة شروط ضرورية للحفاظ على الحضارة الوسط وتعزيز مكانتها.
الحرية قيمة أساسية يجب أن تسود في أي مجتمع يريد أن يصل لمستوى
حضاري متقدم والحضارة الإسلامية تدعو إلى الحرية في جميع مجالات الحياة
وأول هذه الأسس والمنطلقات يذكر الدكتور عاكف: الحرية التي يجب أن تسود المجتمعات الإسلامية حتى تسترد حضارتها دورها ووظيفتها الوسطية، فالحرية قيمة أساسية يجب أن تسود في أي مجتمع يريد أن يصل لمستوى حضاري متقدم، والحضارة الإسلامية- لأنها نابعة من الدين الإسلامي- فإنها تدعو إلى الحرية في مجالات الحياة كلها وأيضا على مستوى العقيدة فليس هناك إكراه حتى في الدين، كما أن الحياة في بيئة حرة تساعد على رفع درجات الانتماء للمجتمع، وبالتالي المشاركة وبذل الجهد من أجل تحقيق أهدافه، أما اختفاء الحرية والحياة في بيئة مكبوتة فيولد التطرف وينشئ أجيالا تتسم بالضعف وهذا يؤدي إلى إعاقة استعادة وظيفة ودور الحضارة الإسلامية.
ومن المنطلقات المهمة أيضا: الشمول والتوازن، والشمول المطلوب يعني أن الحضارة الوسط تهتم بكافة الجوانب المادية والروحية , العلمية والفنية, وكما أنه يهتم بالفرد فإنه يهتم بالجماعة, وكما يهتم بالواقعية فإنه يهتم بالمثالية. هذا هو الشمول الذي تنادي به الحضارة الإسلامية كما أنه هو الشمول الذي يجب أن يتحقق لعودة الحضارة الوسط، والشمول وحده لا يكفي بل يجب أن يتحلى هذا الشمول بالتوازن، فالتوازن أيضا من شروط تحقيق الشهادة.
وعلى هذه الشاكلة يتناول الدكتور محمود عاكف منطلقات وأسسا أخرى هي العلم والعمل، والقوة والعدل، والأخلاق والقيم، ثم يقول: هذه هي المنطلقات الأساسية للحضارة الوسط، ومن الضروري على أصحاب هذه الحضارة وأبنائها أن يستعيدوا تلك المنطلقات حتى يتمكنوا من أن تعتلي الحضارة الوسط المكانة التي تستحقها.
التعاون بديل عن الصراع
وفي نهاية الكتاب يطرح الدكتور عاكف تساؤلات: هل الحضارة الوسط تتصارع أيضا من أجل السيطرة على مساحات أكبر من العالم؟ وإذا كانت تريد الخير ليس لمجتمعها فقط ولكن للبشرية جمعاء, فلماذا تتصارع إذن؟ وما شكل العلاقة بين الحضارة الوسط والحضارات الأخرى، وهل هي علاقة صراع أم علاقة تعاون؟
ويقرر أن الصراع الذي نراه الآن ويروج له عدد من المفكرين الغربيين ينطلق أساسا من المشكلة الاقتصادية والتنافس على الرزق والموارد المختلفة، والحضارة الوسط تؤكد علينا بأن دورنا للحصول على احتياجاتنا وأرزاقنا هو البحث عن هذا الرزق والسعي حثيثا لاستنباطه واستخراجه والتعرف عليه. من الخطأ أن نتصارع فيما بيننا على المتاح والظاهر أمامنا نتيجة اعتقادنا - غير الصحيح- أن هذا الظاهر هو فقط الرزق المخلوق لإشباع احتياجاتنا. لكن الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الاحتياجات الكافية للبشر جميعا من خلال أرزاقهم التي خلقها مع خلقهم ، وما عليهم إلا السعي للتعرف على هذا الرزق والبحث عنه، والسعي المطلوب لا يتطلب صراعا حتى لا تتفتت الجهود بل إن البحث يدعونا إلى عكس الصراع وهو التعاون فيما بيننا.
وحتى ينجح التعاون المنشود بين الدول يضع الدكتور عاكف شروطا ثلاثة: أولها: أن يكون هناك يقين عند المتعاونين بأن الرزق والاحتياجات التي يبحثون عنها موجودة وأن لم تكن ظاهرة لهم، وأن المطلوب منهم هو اكتشافها وتوظيفها، وهذا اليقين مهم جدا لأنه يعضد الأمل ويقاوم أي أحساس بالإحباط والفشل.
والثاني: هو أن يكون هناك ثقة بين المتعاونين في أنفسهم بين بعضهم البعض، وأن كل طرف منهم سوف يبذل قصارى جهده وأقصى طاقة له من أجل الوصول للاحتياجات المختلفة، أو للرزق المخلوق، والذي يبحث عمن يتعرف عليه ويوظفه.
أما الشرط الثالث والأخير من هذه الشروط الأساسية لنجاح التعاون فهو: توفر روح المساواة والتكافؤ بين الأطراف المتعاونة، وألا يفترض أي طرف لنفسه أي مكانة أعلى من الآخرين حتى يسود الود بين الجميع وهذا سوف يدفع بالعمل، ويعجل من تحقيق النتائج المرجوة من وراء هذا التعاون.
ويجب التأكيد عند طرح فكرة التعاون بديلا للصراع على أن تعاون المسلمين مع الأخر يجب أن يكون لتحقيق الخير للبشرية، وليس لتحقيق المصلحة كما ينادي البعض، فالخير ـ كمصطلح ـ هو أسمى وأشمل وأعم، أما مصطلح المصلحة ففيه قصور ودونية وذاتية. كما أن الخير وتحقيقه يمثل شعارا لنا ـ نحن المسلمين ـ وهناك الكثير من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية الشريفة تؤكد على هذا المعنى