عبدالكريم غلّاب
معظم سكان العالم من الشباب. ومعظم الذين يهتمون بمشاكل العالم يهتمون بمشاكل الشباب، ضرورة أن مشاكل الشباب هي مشاكل الحياة تفرزها حياتهم وشبابهم وحيويتهم والمستقبل الذي يمتد أمامهم.
ومع ذلك لو سألت الكثيرين من الشباب والذين يهتمون بمشاكلهم عن مفهوم الشباب لما أضافوا الكثير عن ظاهرة العمر التي تبدأ عند البلوغ وقد تستمر إلى الأربعين، أو ما بعد الأربعين بقليل. وقد يكون هذا المفهوم صحيحاً حينما نقيس عمر الإنسان بالسنوات، كما يقاس عمر الدول والحضارات عند الذين يعتبرون الدولة كائناً حياً: يولد ويجتاز طور الطفولة والفتوة والشباب والرجولة ثم يبدأ في التنازل نحو الكهولة والشيخوخة والموت. قياس هذه بتلك، أو قياس ذاك بهذه سيان. فالمهم عند هؤلاء وأولئك هو الرؤية الظاهرية "الحسابية" التي تتمثل في السن. مع أن السنين إذا أفرزت التطوّر الفسيولوجي، فليست هي – بالضرورة – التي تفرز التطوّر النفسي والعقلي والعاطفي والبشري.
منطق قد لا يصمد كثيراً للواقعية الحياتية التي جعلت البشر يسيرون – منذ كانوا – على وتيرة واحدة، منذ الولادة حتى الموت، مروراً بمرحلة الشباب. ولذلك يصعب الخروج بمفهوم آخر للشباب خارج هذه المنظومة الحياتية، المعتمدة على العد والحساب. غير أنه – مع ذلك – مفهوم ساذج يستوي في إدراكه الطفل بعد أن يعي والشيخ بعد أن يعمر، ويقنع الفتى والشاب به نفسه، وهو يحسب عمره بالسنين. ويظل يقنع نفسه بأنه شاب إلى أن يبتدىء العجز يدب إلى جسده، فلا يستطيع أن يقوم بالذي كان يقوم به بالحركة نفسها والدقة والحيوية والزمن دون كلل ولا رغبة في التخلي عن العمل، ولو على حساب مصلحته.
وانطلاقاً من رؤية أكثر شمولية لظاهرات الشباب ندرك أنها ليست حسابية عددية فسيولوجية، وإنما هي ظاهرة حياتية يعيشها الإنسان بقدر ما يستطيع، وما يمكن أن يستطيع.
القوة الجسدية إحدى مميزات هذه الظاهرة ولا شك. والجسد يستطيع أن يفرز قوته في مراحل الفتوة والشباب والرجولة والكهولة والشيخوخة، إذا استطاع الإنسان أن ينمي هذه القوة بالحركة والحيوية والنشاط. والإنسان قادر على ذلك ما لم تدهمه أمراض تؤثر في مصادر الحيوية والنشاط العقلي والجسدي. وهي في الغالب أمراض تنشأ من كثرة الاستعمال، ولكنها أيضاً تنشأ من قلة التعهد. فالجسم – بأعضائه الأساسية المؤثرة في الأعضاء المتحركة ظاهرياً – ليس مادة جامدة تبلى، وقد تنكسر، بكثرة الاستعمال وصدأ التوقف عن العمل، ولكنه مادة حية، كما تنمو وتشتد قواها بذاتها عن طريق التعهد الغذائي، تستمر في نموها وحيويتها عن طريق الاستعمال ومقاومة الترهل والتعهد بالحركة الدائبة والنشاط الفعال.
لا أذهب في الخيال بعيداً إلى حد الإيمان بالأدوية والعقاقير التي تطيل الشباب، ولا بالتعاويذ التي يلجأ إليها بعض الذين داهمهم العجز، ابتداء من العجز الجنسي الذي يثير كثيراً من المخاوف عند الذين تفاجئهم مراحل التطوّر الفسيولوجي، ولا بالخيال الروائي الذي دفع بعبقرية أوسكار وايلد إلى أن يبدع رائعته صورة دوريان غراي ولكني أؤمن بالعلم الذي استطاع أن ينتصر على معدلات العمر في القرنين الأخيرين، وأؤمن بالذين يحتفظون بشبابهم حتى آخر رمق من حياتهم. وكان الدكتور جاك إيف كوستو رائد البحار آخرهم الذي ظل حتى آخر يوم من حياته يرتاد أعماق البحار والمحيطات. ويوم جاءه الموت نام ولم يصبح.
القوة الجسدية إذن ظاهرة فيها من الاكتساب بقدر ما فيها من الطبيعة، تمنحنا الطبيعة ما تقدر أن تمنحنا في زمن متفاوت الطول، وتترك بقية العملية للاكتساب، وهو يعوض الطبيعة – إذا صاحبها منذ البداية – عندما تبدأ في العجز. ويستمر الشباب في مرحلة تخلي الطبيعة – مرحلة "الكهولة" و"الشيخوخة" – يؤدي مهمته إلى أن يأتي الموت فيختطف الإنسان في الثمانين أو التسعين، وهو بعد شاب في مقتبل العمر، كما يفعل مع بعض الذين يختطفهم في العشرين أو ما دون ذلك.
والقوة الجسدية الطبيعية والمكتسبة تظهر في حيوية العمل، وتتخطى جميع الصعاب التي تعترض الإنسان سواء كانت صعاباً مجسدة أو خفية فكرية أو نفسية. ولذلك فالشباب يستطيع أن يواجه الأخطار القاتلة أحياناً دون أن يعبأ بالنتيجة ولو كان شبه مؤكد أن فيها مصيره. ومن هنا تكون الشجاعة ضرباً من تحدي الأخطار يبعثه الشباب في نفوس الرجال. والذين خاضوا الحروب في مختلف معارك التاريخ – قواداً أو ضباطاً أو جنوداً – كان معظمهم من الشباب من الاسكندر حتى نابليون. ولكن الظاهرة تختلف ولا تتفق دائماً، فكثير من الذين خاضوا معارك فاصلة في التاريخ القديم الحديث، كانوا ممن تجاوزوا مرحلة الشباب، فلم يكن تشرشل وروزفلت ومونتغومري ورومل وايزانهاور من المعدودين على الشباب في الحرب العالمية الأخيرة. ولهذا فالقوة الجسدية المكتسبة إذا تضافرت مع قوى آخرى تستطيع أن تصنع المعجزة دون أن تبحث عن مصدرها – فيما تصنع – في الشباب الجسدي العددي.
والقوة العقلية إحدى مميزات ظاهرة الشباب. العقل يتحكم في الجسم ويوجه ويتخطى به صعاب الحياة في اندفاع كان الشباب جديراً به. الإبداع العلمي والأدبي والفني – مثلاً انتاج ليس نتيجة فكر مجرد عن قوة شبابية. وكثيراً ما نشهد علماء وأدباء وفنانين أحالوا أنفسهم على المعاش وهم في قمة السن التي يمكن أن يبدعوا فيها، لأن الفكر أخذ يتخلى عن إشعاعه فتخلوا عنه، واستلبت الحياة منهم وهم بعد شباب.
ولكن الظاهرة أيضاً لا تكاد تتفق. كثير من العلماء والفلاسفة والمفكرين والمبدعين استمر إشعاعهم في عطائه بعد الثمانين. لم يعترفوا بشيخوخة الفكر. جددوا شبابهم بالعطاء الفكري. كان إجهادهم الفكري يوازي الإجهاد الجسمي. لو اطلعت على انتاجهم دون أن تتعرف على حياتهم وعمرهم لحسبتهم من شباب العمر إلى جانب شباب الفكر.
قوة التحدي للحياة أحسب أنها فاعلة، ليس في الحفاظ على شباب العمر وهو ينسحب يومياً من حياتك، ولكن بالحفاظ على شباب الفكر والجسد في مرحلة الكهولة والشيخوخة. الحياة كلها تحد للإنسان. وأحسب أن سرها يكمن في التحدي. منذ الطفولة الأولى يبدأ الرضيع في تحدي كل ضروب العجز، يفتح فمه ويشغل شفتيه ولسانه في امتصاص الحلمة، ونقد وضعت في فمه الطفلي، وينجح ثم يتحدى الجوع فيصيح، ويتحدى البلل فيصيح، وتلك وسيلته الأولى. ويتحدى انعدام القدرة على التجاوب مع الآخر فيبتسم. والابتسامة أولى الكلمات الجميلة للإنسان، وربما كانت آخر كلماته المعبرة قبل أن يطبق عينيه. ويتحدى بعد الأشياء عنه فيسعى إليها حابياً، ويتحدى ضخامتها بالنسبة لوسائله فيكسرها تعبيراً عن قوته وضعفها، ويتحدى البكم فينطق... ثم يواصل مسيرة التحدي حتى ينتصر على الحياة قبل أن تنتصر عليه. قوة التحدي هذه تستمر ثم تضعف، والإنسان أحياناً في شبابه العمري. ويوم ينتصر تحدي الحياة على تحدي الرجل أو المرأة يضعان السلاح ويموتان قبل أن يموتا.
... ويرحم الله علال الفاسي، فقد كان يعلن في أخريات أيامه وقد داهمه المرض: لن أموت قبل أن أموت... وقد أوفى بوعده المتحدي فلم يمت على فراشه ولا بين يدي الطبيب والممرض، ولكنه مات في أوج حركاته النضالية وفي مكان لو تنبأ متنبىء بأنه سيلقى فيه ملك لكان أبعد في الخيال من ان يصدقه البسطاء والحاذقون.
وقوة التحدي تساعد على الانتصار على المرض. الأمراض تداهم الإنسان. ربما من شبابه الأول. ويمرض الإنسان من خلل في أحد أجهزته بالفعل، ويمكن أن ينتصر على المرض منذ البداية ليس فقط بالاستشفاء والتداوي، ولكن كذلك بقوته المعنوية التي تتعاون مع الطب لتدفع بالإنسان لاستغلال قوة التحدي فيه حتى ينتصر على المرض. وهناك مرضى بالوهم. قد يقرأون أو يسمعون عن مرضى ما فيوحون لأنفسهم بالمرض من حيث يشعرون أو لا يشعرون. ويمرضون بالفعل لأن كل مظاهر المرض تعترضهم، ويقعون في يد طبيب يحكم بظواهر الأشياء ويقيس المرض بما يحكيه المريض من عوارض تعلمها من المرضى الحقيقيين. ويتحالف الطبيب مع المريض بالوهم ليقضيا معاً على قوة التحدي في المريض بالوهم حتى يسقط في الشيخوخة وهو بعد شاب.
والظاهرة نفسها تختلف ولا تكاد تتفق. فكثير من الشيوخ يداهمهم المرض الحقيقي، ولكن قوة التحدي تجعلهم يتعايشون مع المرض فلا يخففون عنهم آلامه فحسب، ولكن يستهينون بها حتى لتصبح جزءاً من الحياة التي يحيونها. لا يمدون أرجلهم للموت قبل الأوان، ولا يلفظون أنفاسهم وهم بعد قادرون على التحدي. شيوخ كثيرون رفضوا الموت كلما زارهم. تحايلوا عليه ليتغلبوا على مظاهره بالطب تارة، بالتحدي في كثير من الأحيان. عاشوا كل ما كتب لهم من حياة في قوة عقلية وجسدية، همهم أن يعيشوا كل حياتهم ما دام الدم يجري في عروقهم، فما اشتكوا وما قنطوا لأنهم مشغولون بالعمل عن المرض، وبالقوة عن الضعف، وبالحياة عن الموت.
هذه بعض ظاهرات الشباب التي يمكن أن تؤكد لنا بعض مفاهيمه، ومن هنا ندرك أن "الشباب"، وهو يعتمد على ظاهرات حية واضحة: الحساب الزمني والمظهر الخارجي والداخلي، الجسمي والفكري والنفسي. لم يهتد الناس، حتى الآن، وبعد ملايين السنين مر منها ملايين الشباب، إلى مفهوم حقيقي للشباب. ومن ثمة تأتي أخطاء التفكير في تقدير الحياة جميعها، التي يمنح الناس فيها فترة معينة محددة بالحساب والعد للإنسان شاباً ثم تطويه الكهولة فالشيخوخة، ويختفي من مجال العلم والنشاط، وما يزال في ريعان قوته الفكرية. القانون يحيله، بالرغم عنه، على الإيداع ليترك مكانه لآخر ما يزال يدرج في طريق النضج الرجولي والفكري والعملي.
تعارف الناس على هذه المقولة وزكتها القوانين الإدارية (في الحضارة الحديثة). ولكن الشباب ما يزال يتحدى في كثير من ميادين العلم والفكر والإبداع ومسايرة الحضارة. يناضل لتصحيح أخطاء التفكير في العقلية الإدارية التي تسربت إلى كل مناحي الحياة. واعتقد أنه سينجح إذا ما أصر على مسيرة التحدي، ولم يركن إلى زاوية منسية في غرفة الإيداع المظلمة.
المصدر: كتاب أزمة المفاهيم وانحراف التفكير